الجمعة، 28 نوفمبر 2014

بيكو لاير : #فن السكون Pico Iyer: The art of stillness


يذكر بيكو لاير أنه عندما كان طفلا، كان يفضل الذهاب إلى مدرسة داخلية في بريطانيا من أن يذهب إلى أفضل مدرسة قريبة من منزل والديه في كاليفورنيا.
لذلك، منذ أن بلغ 9 سنوات كان يسافر بمفرده بالطائرة عدة مرات في السنة فوق القطب الشمالي، وهذا ماجعله محبا للسفر والترحال .

لذا بحلول الأسبوع التالى لتخرجه من الثانوية، حصل على عمل كمنظف للطاولات لكي يستطيع قضاء كل فصل من سن الثامنة عشرة في قارة مختلفة. وبعدها أصبح كاتب أسفار وبذلك جمع بين عمله وهوايته الممتعه معا. 
وفعلا بدأ يحس أن الذكريات الرائعة التى يستدعيها من خلال أسفاره تدخل
نوع من السحر على حياته وخاصة عندما يقصها على أصدقائه حين العودة إلى الديار.
إلا أن أولى الأشياء التي تعلمها من خلال أسفاره أنه لا مكان يبدو سحريا إلا إذا رآه رؤية صحيحة. 
ويؤكد أنه توصل إلى أن أفضل طريقة يمكن بها أن يطور رؤية أكثر يقظة وتقديرا هي ألا يذهب إلى أي مكان، وأن يظل ساكنا ، فالسكون هو ما يتوق إليه معظمنا وما نحتاجه في حياتنا المتسارعة، ألا وهو العطلة. لكنها كانت الطريقة الوحيدة التي وجد أنه يستطيع من خلالها التدقيق من خلال شريط أحداث تجربته وإيجاد معنى لمستقبله وماضيه وبالتالي، وهنا كانت المفاجئة الكبرى، وجد أن عدم الذهاب لأي مكان كان بقدر الحماسة لو ذهب إلى التيبت أو كوبا. 
وما يعنيه بذلك أنه يمكن أن يأ خذ بضع دقائق من كل يوم أو بضعة أيام من كل فصل، أو حتى، كما يفعل البعض، أخذ بضع سنوات من العمر لكي يلتزم السكون بما يكفي لكي يجد ما الذي يحركه أكثر، وليتذكر أين تكمن سعادته الحقيقية وليتذكر أنه أحيانا يمكنه العيش والحياة في اتجاهين متعاكسين. 

ويؤكد أن هذا ما أكد عليه الحكماء من كل الثقافات خلال القرون الماضية. إنها فكرة قديمة. منذ 2000 سنة ، فلقد أشار الرواقيون أنه ليست التجربة هي من تصنع حياتنا، بل ما نفعله بها. ويضرب مثلا بذلك " تخيل أن إعصارا ضرب فجأة بلدتك وحول كل شيء إلى ركام. سيكون هناك من سيبقى مصدوما طوال حياته. لكن شخصا آخر، ربما يكون أخاه، قد يشعر أنه تحرر، ويقرر أن هذه فرصة عظيمة ليبدأ الحياة من جديد. إنه الحدث نفسه تماما. لكن بردود فعل مختلفة تماما" . 
ويستطرد قائلا أنه ليس هناك أمر جيد وآخر سيء، كما قال شيكسبير في "هامليت"، لكن التفكير هو ما يجعله كذلك. هذا بالتأكيد ما كانت عليه تجربتي كرحالة. منذ 24 سنة ذهبت في أكثر رحلاتي إثارة للدهشة عبر كوريا الشمالية. دامت رحلتي بضعة أيام. ما قمت به حينها ملتزما السكون أنني عدت إلى هناك بذاكرتي، محاولا أن أفهمها، وأن أجد مكانا لها في تفكيري، الذي دام 24 سنة والذي ربما قد يدوم طوال حياتي. السفر، بعبارة أخرى، يعطيني مناظر رائعة، لكن السكون هو ما يجعلني أحولها إلى رؤى خالدة. وفي بعض الأحيان، أفكر أن الكثير من حياتنا تحدث داخل عقولنا، في الذاكرة، أو الخيال أو التأويل أو التخمين، وأنه إن كنت أريد فعلا أن أغير حياتي فمن الأفضل أن أبدأ بتغيير تفكيري. مجددا، لم يكن هذا أمرا جديدا، لذلك فقد أخبرنا شكسبير والرواقيون بهذا منذ قرون خلت، لكن لم يكن شكسبير مجبرا على الرد على200 رسالة إلكترونية يوميا. لم يكن الرواقيون، على حد علمي، على الفايسبوك.
نعلم جميعا أننا في حياتنا لنا متطلبات الكثيرة، ولكن المتطلب الأكبر هو أنفسنا.
وجد علماء الاجتماع أن الأمريكيين في السنوات الأخيرة يعملون ساعات أقل عما كان عليه الأمر منذ 50 سنة، لكننا نشعر وكأننا نعمل أكثر. لدينا المزيد من الأجهزة التي توفر الوقت، لكن في بعض الأحيان، يبدو أن الوقت يقل أكثر. يمكننا القيام بالمزيد من التواصل مع الناس في الأصقاع البعيدة من العالم، لكن في أحيان كثيرة ونحن في هذا الخضم، نفقد التواصل مع أنفسنا. 
إحدى المفاجآت الكبرى التي اكتشفتها كرحالة أنه في معظم الأحيان، أولئك الناس الذين يمكنوننا من الوصول إلى أي مكان هم من يصرون على البقاء في أماكنهم. بمعنى آخر، هؤلاء الأشخاص أنفسهم الذين اخترعوا التكنولوجيا ، أولئك هم الأكثر وعيا بضرورة وجود حدود، حتى حينما يتعلق الأمر بالتكنولوجيا. 

ويستطرد قائلا ذهبت مرة إلى المقر الرئيسي لجوجل ورأيت كل تلك الأشياء التي سمعتم عنها، منازل الأشجار في الداخل والمنصات البهلوانية، الموظفون الذين كانوا حينها يستمتعون ب20 في المئة من وقت عملهم بالمجان لكي يطلقوا العنان لخيالهم. لكن ما أدهشني بشكل أكبر أنني حين كنت أنتظر بطاقتي الرقمية كان أحد موظفي جول قد أخبرني عن برنامج كان بصدد بداية تعليمه للعديد من موظفي جوجل الذين كانوا يما رسون اليوجا ليصبحوا مدربين لها، وموظف آخر أخبرني عن الكتاب الذي كان بصدد كتابته حول محرك البحث الداخلي، وكيف أن العلم أثبت أن السكون، أو التأمل يمكن أن يوصلك ليس فقط لصحة أفضل، أو لتفكير أوضح، بل للذكاء العاطفي. 
لي صديق آخر يعمل بالسيليكون فالي، وكان من أفصح المتحدثين عن التكنولوجيا الحديثة.
وفي الواقع، فقد كان أحد مؤسسي مجلة وايرد ماجازين، إنه كيفين كيلي. وقد كتب كيفن كتابه الأخير عن التكنولوجيا الحديثة دون أن يكون لديه هاتف ذكي، أو حاسوب أو تلفاز في البيت. وكما هو الحال بالنسبة للكثيرين في السيليكون فالي، فقد حاول جادا أن يقوم بما يسمونه سبت الانقطاع عن الانترنت، حيث يغيبون تماما كل أسبوع عن الانترنت لمدة 24 أو 48 ساعة لكي يستجمعوا قواهم التوجيهية والتناسبية والتي سيحتاجونها حين يعودون إلى الانترنت مجددا. الشيء الوحيد الذي لم تمنحه إيانا التكنولوجيا ربما هو بشكل ما كيفية استعمالها بشكل رشيد. 
وكلنا يعلم أنه من مظاهر الفخامة الفضاء الفارغ. في العديد من المقطوعات الموسيقية، إنها الوقفات أو الاستراحات التي تعطي المقطوعة جماليتها وشكلها. وأعلم بما أنني كاتب أنني غالبا ما أدخل الكثير من الفراغات في صفحاتي لكي يكمل القارئ أفكاري وجملي ولكي أعطي لخيالهم مجالا ليتنفس. الآن،في المجال المادي،بالتأكيد.
فعندما كنت في 29 من عمري، قررت أن أعيد صياغة حياتي كلها على ضوء فكرة البقاء في مكاني. 

فهجرت حياتى بأحلامها إلى غرفة فردية في الشوارع الخلفية في كيوطو في اليابان، التي كانت المدينة التي جذبنى سحرها بقوة كبيرة . حتى عندما كنت طفلا كنت أنظر إلى لوحة كيوطو فقط لأتعرف عليها؛ كنت أعرفها قبل أن تقع عيني عليها. لكنها أيضا، كما تعلمون، مدينة جميلة محاطة بالتلال، مليئة بأكثر من 2000 معبد وضريح، حيث التزم الناس السكون طوال 800 سنة أو يزيد. وبعد فترة قصيرة من انتقالي هناك، انتهى بي المطاف حيث أنا الآن مع زوجتي وأطفالي السابقين، في شقة ذات طابقين في مكان منعزل حيث لا نتوفر على سيارة أو دراجة أو تلفاز ، ولا أزال بحاجة لدعم أحبائي ككاتب رحلات وكصحفي، وبكل وضوح فإن هذا ليس مثاليا من أجل إحراز تقدم في العمل أو إشعاع ثقافي أو تنوع اجتماعي. لكنني أدركت أن هذا يمنحني ما أصبو إليه .
وقد لاحظت أن العديد من الناس يأخذون تدابير واعية هذه الأيام لكي يفتحوا فضاءات في حياتهم. يذهب البعض منهم إلى منتجعات " الثقب الأسود" حيث ينفقون مئات الدولارات لليلة الواحدة لكي يضعوا هاتفهم النقال وحاسوبهم لدى مكتب الاستقبال عند وصولهم. بعض ممن أعرفهم، قبل أن يخلدوا للنوم، فإنهم يطفؤون الأضواء ويستمعون للموسيقى، وقد لاحظوا أنهم ينامون بشكل أفضل ويستيقظون بنشاط أكثر.
كنت مرة محظوظا بما يكفي لكي أقود سيارتي عبر تلك الجبال الشاهقة والمظلمة خلف لوس أنجلوس، حيث كان الشاعر والمغني الكبير ليونارد كوهن يعيش ويعمل طوال سنوات كراهب بدوام كامل في مركز ماونت بالدي زين. ولم أكن متفاجئا كثيرا حين بلغ ألبومه الذي أطلقه في سن 77، والذي أطلق عليه عمدا العنوان غير المثير "أفكار قديمة"، المركز الأول في قوائم 17 دولة في العالم، وكان ضمن أفضل 5 أغان في تسع دول أخرى. أعتقد أن هناك شيء ما فينا، يطالب بنوع من الحميمية والعمق التي نحصل عليها من أناس كهؤلاء. أولئك الذين يستغلون الوقت والمشاكل ليبقوا ساكنين. وأعتقد أن العديد منا لديه هذا الإحساس، أنا متأكد أننا نقف على بعد إنشين من شاشة ضخمة، صاخبة ومزدحمة ومتغيرة في كل ثانية، وتلك الشاشة هي حياتنا. لذا فعن طريق الرجوع خطوة إلى الوراء، وأخرى إلى الأمام، والحفاظ على سكوننا، يمكننا أن نرى ما الذي يعنيه ذلك الستار وأن نلتقط صورة أكبر. يقوم العديد من الناس بذلك من خلال البقاء في أماكنهم. 
إذا، وفي عصر السرعة، ما من شيء أكثر متعة من التحرك ببطء. وفي عصر الذهول، ما من شيء أكثر فخامة من الانتباه. وفي عصر الحركة المستمرة، ما من شيء أكثر استعجالا من السكون. لذا فيمكنك الذهاب في عطلتك المقبلة إلى باريس أو هاواي، أو نيو أورلينز؛ أراهن أنك ستقضي وقتا ممتعا. ولكن، إن أردت العودة إلى الديار مفعما بالحياة وبالأمل، وغارقا في حب العالم، فإنني أعتقد أنه ربما عليك أن تفكر في البقاء في مكانك. 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق