يقول هاورد جارندر Howard Gardner : اسأل طفلاً عمره خمس سنوات لماذا تشتد الحرارة في الصيف؟ سيقول لك لأن الأرض في فصل الصيف قريبة من الشمس. سيقول لك ذلك أيضاً طالب بآخر سنة في المرحلة الثانوية.. وكلاهما مخطئ. و كلاهما اعتمد في إجابته على قوة المعلومة المخزونة في إدراكه منذ صغره. و يقول هاورد قارندر إن سرعة البديهة لطفل عمره خمس سنوات أمر جيد، و لكن لماذا لم تغير دراسة اثني عشر عاماً في التعليم العام هذه المفاهيم الخاطئة عند الأطفال؟، و هو سؤال كبير له مغزاه..
و لتفسير ذلك وللإجابة عن هذا السؤال يقول هاورد قارندر ـ العالم النفسي و صاحب نظرية تعدد الذكاء Multiple Intelligences - يقول في كتابه: العقل الجاهل: كيف يفكر الأطفال وكيف يجب أن تعلّم المدارس؟ إن المدارس لم تتمكن حتى الآن من مواجهة المفاهيم و المعلومات المغلوطة التي خزنها الأطفال في أذهانهم في صغرهم، و المشكلة أن معظم المدارس لم تفكر في هذه المشكلة حتى الآن، و لم يتم مواجهة هذا النوع من المشكلات، و لهذا بقيت كثير من المفاهيم و المعلومات الخاطئة في أذهان التلاميذ و أدت في بعض الأحيان إلى حدوث متغيرات للأطفال أثرت تأثيراً سلبياً على سلوكهم و مسار حياتهم، مؤكداً أن أسباب ذلك ترجع إلى استمرار المعلومات و الخبرات و القناعات و المفاهيم المخزونة في الأذهان منذ سن الخامسة.
و يشرح هاورد جارندر Howard Gardner أن الأطفال يأتون للمدرسة في سن السادسة بنظريات قوية Robust حول أنفسهم و الناس من حولهم، و عن العالم، لكن هذه النظريات مغلوطة و بدلاً من أن تقوم المدارس بمواجهة هذه النظريات و تحديها و تصحيحها لمفاهيم أخرى جديدة تبقى تلك المفاهيم الخاطئة في أذهان الدارسين مؤثرة تأثيراً سلبياً في حياتهم.
و يضيف : حتى إن كانت هذه المفاهيم متناقضة مع ما يدرسه الطلاب فإن المفاهيم المخزونة منذ الصغر تتعايش مع المفاهيم و النظريات الجديدة التي يتعلمها الطلاب في المدارس و يبقى تأثيرها السلبي.. و ضرب قارندر مثالاً على ذلك التعايش، فإذا سأل المعلم -في المدرسة- سؤالاً حول المعلومات التي تعلمها الدارس في المدرسة فإن الطالب يعطيه إجابة مبنية على ما تعلمه في المدرسة من نظريات و مفاهيم، لكن ذلك لا يعني أن الدارس قد تخلى عما قام بتخزينه من نظريات و معلومات منذ سن الخامسة. لأن ذلك الدارس ما إن يخرج من المدرسة حتى يقوم بالرجوع revert إلى نظريات عقل الخمس سنوات، و ذلك عندما يواجه مواقف جديدة تتعلق بهذه النظريات. لأن المدرسة كما يجادل هاورد قارندر لم تُعدّه لمواجهة مثل هذه المواقف ، و لم تواجه نظريات الخمس سنوات و تصّححها. و لذا فهو يلجأ إليها عندما يواجه موقفاً يحتاج إلى هذه النظريات.
و المشكلة -كما يقول المؤلف- أن المعلمين و المدارس يتعاملون مع الدارسين كما لو كانت عقولهم فارغة، و تحتاج إلى ملئها بمعلومات جديدة و يقول: إذا لم نواجه الأفكار الموجودة في أذهان الدارسين و نعرف المناسب منها و نعززه و غير المناسب و نغيره فإن الأفكار غير المناسبة ستبقى هناك في ذهنه مؤدية إلى غير المناسب من السلوك، و عن الهدف الحقيقي للتعليم يقول هاورد قارندر: قد يصل الدارسون في مستوى القيام بالواجبات و درجات الاختبار إلى مستوى نرضى عنه، و لكن ذلك لا يعني أننا ضمّنا فهم الطلاب و استيعابهم لما تعلموه.. و هذا الاختلاف بين التدريس و الاستيعاب يجب أن يقلقنا لنبحث عن الاستيعاب الحقيقي و راء التعليم المتكرر و الإجابات القصيرة التي عادة ما ينظر إليها كهدف أساسي للتعليم . و يضيف هاورد قارندر أن أحداً لم يسأل سؤالاً إضافياً: لكن، هل «حقيقة» فهمت؟ إن الفجوة بين ما نعتقد أنه فهم و بين الفهم الحقيقي كبيرة جداً. و اقترح هاورد قارندر حلولاً قد تؤدى إلى الفهم الحقيقي الذي ننشده.. مبيناً وصفة واضحة لإصلاح المدارس.
لقد اقترح هاورد قارندر نظاماً تعليمياً مقترناً بمشروعات فردية و جماعية تقوم أساساً على الخبرات و التجارب تقدم عن طريق متاحف للأطفال الذين يقومون بزيارتها للاطلاع على نماذج من الخبرات و التجارب بشكل ملموس و محسوس، و يعتقد هاورد قارندر أن هذه المشاريع و البرامج تجعل الأطفال يستعيدون بيئة تعليمية مفقودة من خبرات مدارسهم. و خلال هذه البرامج يجب أن يشارك الدارسون الكبار بشكل مستمر، يتعلمون من خبراتهم في المجال الذي يعملون فيه.
تتمحور حياة الناس - خارج نطاق التعليم - حول المشاريع، و هذه النقطة لم تتعرض لها المدارس حتى الآن. يقول المؤلف: «دائماً أفترض أن الناس عموماً يمكن أن يتعلموا بشكل أكبر من خلال مشاريع قليلة يقومون بها في المدرسة، و ذلك أكثر مما يتعلمونه من مئات الساعات من المحاضرات النظرية و الواجبات المدرسية»، و أتصور أن كثيراً من الناس ينتهون إلى مهنهم و إلى هواياتهم لأن أقدامهم قادتهم إلى مشروع تعليمي جيد، و اكتشفوا أن ذلك المشروع حقيقة ممتع و مفيد لهم. و في الوقت نفسه عندما ينغمسون في ذلك المشروع قد يكتشفون ميولهم الحقيقية.
و يعتقد هاورد قارندر أن المدارس يجب أن تعير الانتباه إلى مساعدة الدارسين ليكتشفوا المجالات التعليمية المناسبة لهم، مركزة في ذلك على المهارات الأساسية، و مؤكدة الجوانب الإيجابية و المفاهيم الإيجابية التي يحملها الأطفال، و المرونة و الإبداعية و الحماس التلقائي للتعليم. ويضيف أنه من الممكن بدون شك أن يكون الدارسون مثقفين، و من الممكن أن يحتفظوا بثقافتهم. و لكن الشيء المفقود هو أن هدف الثقافة الحقيقي قد فُرِّغ من محتواه الحقيقي. فالدارسون يكونون مثقفين بمفهوم الثقافة السطحي، حيث يُدفع الدارسون إلى حفظ قوانين القراءة و الكتابة كما يحفظون قوانين الجمع والضرب في الرياضيات. و الشيء المفقود يتعلق بناحيتين:
الأولى: القـدرة عــلى القــراءة بهــدف الاستيعاب.
الثانية: الرغبة في القراءة أصلاً.
و اقترح كتاب هاورد جارندر الطرائق التي يستطيع بها المعلمون مساعدة طلابهم في مواجهة مفاهيمهم الخاطئة و نظرياتهم المغلوطة؛ بهدف الوصول إلى استيعاب حقيقي و عميق . إحدى الطرائق التي اقترحها هي : تحديات كرستوفر كولمبوس عندما تحدى النظرية (المقولة) التقليدية بسطحية الأرض، و أنها ليست كروية ، عن طريق هذا التحديد يقول المؤلف: يمكن للمعلمين أن يواجهوا مفاهيم طلابهم و يثبتوا صحتها و من ثم دعمها، أو يثبتوا بطلانها و يقنعوا طلابهم بالتخلي عنها. و ذلك عن طريق مقارنة تلك المفاهيم بنظريات أكثر تطوراً و مصداقية حول كيف يسير العالم من حولهم. (ضرب مثالاً بمادة الفيزياء) و مثالاً بمادة التاريخ حيث قال: يمكن للطلاب في مادة التاريخ أن يعيدوا النظر في مفاهيمهم حول أسباب الحرب العالمية الأولى عن طريق تفنيد المبررات المتناقضة لنفس الحدث .
ويقول هاورد جارندر إن المفتاح لتحليل الدارسين و استعراضهم و مناقشتهم للمادة هو النظر إلى الحدث من عدة زوايا و ليس من زاوية واحدة قدر الإمكان. و يقول في هذا الصدد إن الطريقة الوحيدة لتغيير مفاهيمنا إلى الأصدق هي أن نضع هذه الأشياء في قائمة اهتمامات المدرسة من السنوات الأولى ، و أن نعيد هذه الطريقة مع الطلاب مرات و مرات و مرات؟حتى يتعودوا على هذا النوع من التعليم.
و طريقة هاورد قارندر الرئيسة تتطلب دائماً من الدارسين و المعلمين معاً إعادة التفكير في المفاهيم التي يحملها الدارسون لفترة طويلة و وضعها على طاولة المناقشة لتعزيز الصحيح و المفيد منها، و استبعاد الخاطئ . و يقول إن معظم الناس و المعلمين منهم، يرجع و يؤكد ما تعلمه في سن الخامسة في مدرسة سماتها: السلطوية، مؤسسة عقابية فيها شخص ما ذكي يقف في مقدمة الفصل الدراسي يحاول تمرير معلومات لمجموعة كبيرة من الدارسين. وإذا كان في ذلك الفصل طفل عمره ست سنوات ، في مدرسة تقليدية كهذه، فمن المؤكد أن تعليمه سيكون سيئاً، و بالتأكيد سيكون هذا الطفل في المؤخرة . و لكن في مشروع هاورد قارندر يستطيع ذلك الطفل أن يثبت نفسه بشكل أفضل في فصله في مجموعة من المهارات مثل تفكيك مقابض الأبواب و إعادتها.. طحن الأطعمة، و مهام أخرى نحتاج إليها. و عندما يبني هذا الطفل نجاحاً فوق آخر من مهارات كثيرة و مختلفة يطبقها، و يقوم بها بنفسه و يراها و يشعر بها سيشجعه، ذلك على تحسين أدائه المدرسي.. لأنه عندما يرى أن لديه قدرات قُيِّمت و أثُني عليها من آخرين سيغرس هذا الشعور في نفسه الثقة مما يدفعه للعمل بشكل أفضل في مجالات أخرى.
في كتابه «العقل الجاهل» يأمل هاورد قارندر أن يصل إلى المعلمين بنظرياته حول « عقل الخمس سنوات» و توقع أن هذا الكتاب سيضرب على الوتر الحساس في اهتمامات المعلمين المتميزين.. و توقع أيضاً أن يقول هؤلاء المعلمون «كنا نعتقد منذ زمن أن ما نعلِّمه لطلابنا قد وصل إليهم واستفادوا منه في حياتهم».
و يريد هاورد قارندر من المعلمين أن يفكروا كثيراً في طريقة تدريسهم، و أن يستخدموا طرائق في التعليم تركز على الاستيعاب الحقيقي، الذي يكون -فقط- عندما يعترف المعلمون بمفاهيم الدارسين السابقة التي يأتون بها للمدرسة و يحملونها منذ السنة الخامسة، و ينطلق المعلمون من تلك المفاهيم ليبنوا عليها. عند ذلك فقط سيتمكن الدارسون من استيعاب دروس معلميهم في المدرسة. و عندها فقط سيتمكن الدارسون من تطبيق ما تعلموه خارج الفصل الدراسي ذلك الهدف الذي نسعى كتربويين لتحقيقه.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق