يركّز جيرالد برونر، أستاذ علم الاجتماع في جامعة ديدرو بباريس، أعماله على المعتقدات الجماعيّة
. مهتما بشكل أعمّ بظواهر الإدراك الاجتماعيّة، وهو يرى وجوب اهتمام علم الاجتماع المعرفي بالحالات التي تتعلّق بالتهجين بين الثوابت المعرفيّة، وبين ارتباط الأفكار التي يحملها الفرد بالمتغيّرات الاجتماعيّة، بما في ذلك السياق الثقافي الذي تتمّ فيه.
أى أنّه “مهما كان التقدّم المحرز في المعرفة الإنسانية، فإنّ الفرد يظلّ ما كان عليه دائماً؛ أي فرداً محدود القدرات على المعرفة بحدود لا يمكنه تجاوزها، ولا إمكانيّة لأيّة علاقة للإنسان مع العالم إلاّ بطريقتين: المعرفة أو الاعتقاد” .
وبالتالى فإن عقولنا محدودة الأبعاد، لأنّ وعينا منحصر في مساحة محدودة وحاضر أبدي، وهو ما يمنعنا في كثير من الأحيان من الوصول إلى المعلومة الضروريّة لإصدار حكم متوازن. وعلاوة على ذلك، فهو محدود أيضاً ثقافيّا، لأنّه يفسّر المعلومات على أساس تمثّلات سابقة. وأخيراً، فهو محدود معرفيّاً لأنّ قدرتنا على معالجة المعلومات ليست لانهائيّة، ولأنّ تعقّد بعض المسائل يتجاوز إمكانيّات الحسّ السليم لدينا.
فإذا انتقلنا إلى المضمون، فإنّ أبرز ما يميّز هذا الكتاب هو صياغة مؤلّفه مفاهيم عدة من علوم إنسانيّة مختلفة، ومن ثمّة قولبتها بمهارة كبيرة، كاسراً بذلك الحدود بين الفلسفة وعلم الاجتماع وعلم النفس، وهو ما يجعل من هذا الكتاب عرضاً توضيحيّاً للآليّات التي تؤدّي، بطريقة منطقيّة ، إلى اعتناق الناس أفكاراً متطرّفة.
يبين برونر أنّ الفكر المتطرّف غالباً ما يكون منتشراً عند شريحة المتعلّمين المنحدرين من أوساط اجتماعيّة متجانسة إلى حدّ معقول ولا تعاني بشكل كبير من الفقر المدقع، أي باختصار، من نعتبرهم “أناساً عاديّين”.
وبالتالى يكسر الصور النمطيّة عن التطرّف السائدة عند عموم الناس، من قبيل أنّ الفقر هو الأرض الخصبة لتفشّي التطرّف، أو أنهم أشخاصاً “غير عقلانيّين”، وصلوا إلى ما هم عليهم بسبب “تدنّي مستواهم التعليمي”
فالمتطرفون مثل جميع البشر – محكومين بحدود المعرفة واتّساع المراد إدراكه، فالتطرّف لا يكون إلاّ نتيجة اعتقاد جازم في صحّة فكرة وجدارتها.
والاعتقاد فى رأيه، يمكن تعريفه من خلال مضمون (فكرة) ومن خلال علاقة الشخص بذاك المضمون، أي الالتزام بفكرة بدرجة أو أخرى، ويكون ذلك إمّا عبر:
- الانتماء بالوراثة.
- الانتماء بالإحباط؛ أي بدافع اليأس من عالم خارجيّ .
فالمسألة كما يرى برونر ، ليست مسألة منطقيّة التفكير عند المتطرّفين بقدر ما هي مسألة التزام ببعض الأفكار التي يثبت عدم تناغمها مع مقتضيات الواقع. ومن هنا، يغدو التطرّف تطرّفاً في إضفاء المنطقيّة على تفكير يُفترض ألا يتجاوز حدّاً معيّناً من التماسك المنطقي
أى أن التطرّف: يعتبر موقف هشّ سهل الانكسار ، وبالتالى يمكن تغيير وجهة نظر المتطرّف مهما كان متشدّداً.
ذلك شرط ظهور بوادر الشكّ، أوّلاً في العناصر المحيطيّة للمعتقدات، وهي التي تسمح في الغالب بالتطرّف، ثمّ ببروز “تنافس معرفي” بين القيم المتطرّفة وغيرها من القيم، وهو ما يمهّد لاستعادة التواصل الاجتماعي بوصفه الحلّ لمواجهة الإنحراف الطائفي.
وقد يكفي الاطّلاع على هذا الفصل كي نتبيّن قيمة عمل جيرالد برونر في نظر المهتمّين بالمعتقدات بشكل عامّ، وخاصّة منهم المهتمّون بمسائل التطرف بأشكاله وبالانحرافات الطائفيّة وكيفيّات معالجتها.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق